كانت ملامحها شاحبة وحزينة حين هرولت مسرعة إلى الرصيف المقابل مرددة بصوت عال: ”ابتعدن عني … ابتعدن عن طريقي“ … مضت بخطى مرتبكة كأنها لاتدري اتجاهها … التفتُّ ورائي لأرى مماذا هي خائفة؛ حينها لمحت مجموعة من الفتيات تلاحقنها بألفاظ جارحة تنم عن حقدهن وأخلاقهن الدنيئة
كنت بين الفينة والأخرى ألمحها في طريقي تعاني من نفس الإساءة والإيذاء، أحيانا عن طريق التحرش الفعلي وأحيانا بالإعتداء اللفظي … النفسي … والجسدي أحيانا أخرى. كان يحز في نفسي كل هذا التنمر(Bullying) عليها خصوصا وأنهن لازلن صغار السن. ما الدافع لهذا السلوك العدواني؟
حاولت مرة أن أحدثها لعلني أستطيع مساعدتها؛ قلت لها: ”لماذا يتصرفن معك هكذا؟ هل لديك مشكل مع إحداهن؟“ أجابتني: ”إنهن لسن بصديقاتي، يكرهنني ولست أدري لماذا!“ بدأت تبكي قائلة: ”مللت من الضحك والاستهزاء بي، صِرْن ينتقذن أسلوبي في اللباس، ينشرن إشاعات كاذبة ليُبعدن الأصدقاء عني … حت
ى الأشخاص الذين أختلط بهم صرن يمارسن عليهم نفس السلوك التعسفي ويتعرضون للمضايقات؛ فصرت كما ترين وحيدة. الكل يخاف ويتهرب من الاقتراب مني. كل هذا لأنني ناجحة في دراستي، كل هذا لأنني لا أحب إضاعة الوقت فيما لا ينفع معهن … فقررن عزلي عن كل الأصدقاء …“
لم أجد كلاما أقوله يخفف معاناتها سوى: ”لاتنهزمي وكوني قوية. إنهن مرضى وسلوكهن التعسفي متعلق بضغطهن النفسي، إنهن لسن قويات كما يتظاهرن. هن استبداديات يحتجن للسيطرة والهيمنة على الآخر تعويضا عن ضعفهن، أو غيرتهن، أو حسدهن؛ متكبرات ونرجسيات … الشيء الذي أفقدهن الإحساس بمشاعر الآخر. تأكدي صغيرتي أنك أجمل وأرق وأطيب منهن، بأخلاقك، بتفوقك الدراسي، بنجوبك، وبحب أهلك لك. اعتبريهن مرضى. فإياك ثم إياك أن تشعري بالوحدة أو الاكتئاب؛ إياك ثم إياك أن تشعري بتدنٍّ في تقديرك لذاتك. لاتستسلمي فيجعلونك ضعيفة مثلهن … فاشلة مثلهن! إنهن يستدعين الشفقة أكثر من أي شيء آخر.“
عادت الابتسامة إلى مُحيَّاها البريء مرددة عبارات الشكر. فعلا أزاحت الطفلة عن نفسها الإحساس بالخوف ومن الآن فصاعدا لن تكثرت لكلامهن مهما كان قاسيا. وانصرف كل منا إلى حال سبيله …
لم أخبرها أنني أنا الأخرى عانيت من التنمر حين كنت طفلة في سنها… ولازلت أصادفه أحيانا في كل المجالات والأماكن إلى حد الآن … لأن أولئك الأطفال المتنمرين كبروا هم أيضا وصاروا يمارسون سلوكهم العدواني في كل مكان. فصار سلوكا اعتياديا. فلننتبه إلى سلوك أطفالنا منذ الصغر. لأن هذا هو الذي سينعكس عليهم عند الكبر. فإن زرعنا نبتة قوية مليئة بالحب … بالاهتمام والرعاية … سنجني ورودا جميلة … تبهج الناظرين … وإن أهملناها بدون رعاية فستجف وتذبل … وسنكون أول الجرحى بشوكها … فالبيئة التي نتربى فيها تساهم بشكل كبير في إنجاب الأخيار، و الأشرار أيضا. والطفل بطبعه يرى ويتعلم من أقرب الناس إليه. وكم من المتنمرين صاروا كذلك مثل آباءهم أو أمهاتهم، استبداديين وفي أحيان أخرى كانوا ضحايا للتنمر …
فلا للتنمر بكل أشكاله وحِدًّته … لا للتنمر في العمل … لا للاضطهاد النفسي أو الجسدي في المدرسة … بين الأصدقاء … بين الإخوة … لا للتنمر بسبب العِرْق … أو الدين … المال أو الجمال … فقيمة بعضنا لا تُقدر بما نملك ولكن تُقدر بأخلاقنا، قيمنا الإنسانية، وتعامل بعضنا مع البعض بالخير والإحسان
سلوى الغرظاف